الدكتورة نايلة أبي نادر – أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية
- (بحث ألقي في مؤتمر العلايلي بتاريخ 28 شباط 2017 بدعوة من ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار)
" الحياة حركة نائمة، والموت سكون دائم، ولكنه بالنسبة الى العظيم يُعطي معنى آخر. فإن موت العظيم ليس سكوناً هامداً، بل هو خروج الحركة عن مركزها لتنتشر في أحياء كثيرين".
ينغرس الامل في القلوب كلّما نفتح صفحات مشرقة من تاريخ كبارٍ رحلوا وما زال صدى أفكارِهم يتردّد في أروقة الذاكرة ناشراً منبّهاته التي توقظ الوعي وتضعه في مواجهةٍ مع الأسئلة المقلقة.
يتوهّج الشعاعُ المنسكبُ من وجوههم ليجذبنا خارج التناحر السخيف، ويُبعدنا ولو لدقائق معدودة عن التقاتل المُخزي الذي تضجّ به الساحة العربية الاسلامية منذ فترة.
تنكفئ الغيوم الرمادية خجلة لتفسح المجال هذه العشية أمام نورٍعلايلي آتٍ من فوق لكي يخترق وعينا، ويتلألأ هنا في وجه عتمةٍ تلونت بالضياع والجهل والإنكفاء في زوايا الخوف وتوهّم الحقيقة.
في زمنٍ كثر فيه مُدّعو المعرفة وقلّ فيه العلماء، في زمن فاضت فيه الخطابات الهدّامة لتقتحم المنابر والساحات مما حجّم وهج العقل البنّاء وضيّق دائرة الحوار المفتوح، في هذا الزمن بالذات تتّجه الأنظار نحو "رائد التجديد والحوار والتقريب"، نحو قامةٍ اخترقت العدم وتربّعت على عرش المعنى لتطلق كلماتها في فضاء الوعي.
انه عبد الله العلايلي، هذا المستنير الذي تمرّد على الجهل، وقهر جيوشه المتراصّة من حوله. هذا الثائر الذي لم يكتف بتكرار ما قاله الأجداد عن ظهر قلب، هذا الشيخ الذي عشق العربية، وتنفس القومية، وهام بأصالة الهوية. انه من زمن آخر، له مسارٌ فكريٌ مشبعٌ بالمعرفة والأخلاق. صهيلُ كلماته ما زال يتردّد في الأروقة الثقافية شبه المهجورة، يبحث عن آذانٍ صاغية، وقلوبٍ هائمة، وعقولٍ عطشى تسعى وراء الكلمة الحقّة.
قد تكون طبقات الغبار قد غطّت ملامحه لفترة، وأصوات التعصب الأعمى قد طغت على صوته الثائر في وجه التقوقع ورمي الآخر المختلف بأحقر التُّهم، لكن صدق ما عبّر عنه، وعمق ما توصّل اليه في كتاباته لم يعد جائزاً أن نتجاهله ونتركه طي الكتمان، لأنه جاء ثمرة تفكّر عميق مقروناً باختبارات واقعية متنوعة وغنية.
إن من يواكب كتابات العلايلي يلفته أمرٌ في غاية الدّقة، إنه النظر النقدي الذي طبع مجمل مقارباته التي تناولت موضوعات فكرية عدّة. خرج على التقليد، وحاول أن يقارب المسائل المطروحة في أيامه من وجهة موضوعية، علمية، دقيقة، لا تكتفي بتكرار ما سبق إنتاجه، والتصفيق للأسماء الكبيرة، إنما تغامر في اختراق المحرّم، وإظهار المحجوب. تجرّأ العلايلي على خوض معركة النقد، فرفع قلمه في وجه التحجّر والتقوقع والتفرّد في إمساك الحقيقة والحَجْر عليها في أُطر التأبيد. الشك، والمراجعة الدائمة، والمساءلة الناشطة عناوين عريضة سيّرت منهج العلايلي في مختلف مقارباته. من هنا كان لا بدّ لي من أن أتوقف عند أسس وتجلّيات النظر النقدي لديه، في محاولة لتسليط الضوء على المنهج الذي اتّبعه في معالجته لمفهوم الدين، وفي قراءته المتميّزة لفكر أبي العلاء المعري.
قبل الدخول في تفاصيل الدراسة، أودّ أن أشير الى أن العلايلي قد غمس ريشته بحبر النقد عند تطرّقه الى كيفية كتابة التاريخ، والى المسألة اللغوية، وعندما عالج القومية، وغير ذلك من الموضوعات الفكرية التي كتب فيها، لكنني اخترت التوقف عند كيفية تحديده للدين، كما عند كيفية تصوّره للمنهج، بخاصة عندما قام بقراءة فكر المعري، وذلك للأسباب الآتية:
1- المقاربة النقدية التي طبعت تحديده للدين، ولدوره على صعيد الفرد والمجموع.
2- مخالفته للكثير من التحديدات التقليدية الضيقة وكيفية تعاطيها مع الدين.
3- انفتاحه على الأديان التوحيدية ومقاربتها للحقيقة الالهية.
4- انهمامه بالتنظير في موضوع المنهج، وبخاصة المنهج النقدي.
5- تقديمه قراءة دقيقة تعيد النظر في ما كُتب حول ما أنتجه أبو العلاء المعري.
من هنا، حصرتُ العمل في هذه الدراسة بنقطتين اثنتين، ليس لأن النقد عند العلايلي يتجلّى فيهما فقط، إنما ابتغاء للاختصار والتركيز على ما يندرج في سياق انشغلاتي الفكرية التي تتمحور حول المنهج النقدي وتجلّياته في الفكر العربي الاسلامي المعاصر، بخاصة عند محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وشربل داغر وغيرهم. تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن مسألة كتابة التاريخ، وإعادة النظر في ما كُتب قد شغلت العلايلي، فكرّس لها جهداً بارزاً في أكثر من عمل. كذلك مسألة نقد المنهج التربوي المتعلّق بكيفية تدريس التاريخ حاز على اهتمامه، بخاصة في كتابه "تاريخ الحسين". ناهيك عن مقاربته المسالة اللغوية، والموضوعات الفقهية، حيث برز النهج النقدي بوضوح ثورةً على الماضي الذي لم يعد في بعض جوانبه قابلاً للتطبيق في الحاضر. لذا ستطرح الدراسة الأسئلة الآتية: هل مقاربة العلايلي للدين بعامة وللإسلام بخاصة تعتبر مقاربة نقدية؟ ما هي مرتكزاتها؟ وبالتالي ما الذي جعله ينهمّ بالمعرّي، وما الذي تمكّن من إبرازه في هذا الخصوص، بعد أن راجع أبرز ما تمّ تقديمه من دراسات حول فكره؟
1- تجلّيات النظر النقدي: مقاربة الدين نموذجاً
"وما عرفَت الدروبُ، مذ أُبدعت وعُبّدت، غاية لنفسها الا هذه الغاية، غاية العبور الى النور الأسنى".
إن من يتتبّع ما كتبه العلايلي بخصوص الدين بعامة، والاسلام بخاصة، يلفت انتباهه كيف نظر الى الإسلام بعينين واسعتين، فشرّعه على الدهشة، والتجدّد، والتأقلم مع الحياة. رفض أن يُصنّف في دائرة الدوغمائية والوثوقية ويُعزل عن التاريخية والإنغماس في المتغيّر. انه في موقفه المنفتح هذا يذكّرنا بمحمد أركون الذي يتّفق وإياه في ما يخصّ مقاومة السياجات العقيدية المغلقة التي فرضتها عبر التاريخ سياسات الفقهاء الذين ضيّقوا الأفق، وحدّدوا الطرق، مكتفين بالشكل ومبتعدين عن العمق.
يرى أن "في ميدان البحث الإسلامي اليوم ميلٌ جامحٌ الى التقليد يبلغ حدّ التطوّح، وكدتُ أقول الهوى لو لم أمسك وأحبس على قلمي، لِمكان الرغبة الخيّرة التي تكمن وراء هذا الميل؛ فتارةً هو و"الاجتماعية العلمية" سواءٌ، وأخرى هو و"الاشتراكيات الخيالية" على قدر، وهكذا قُل في سائر ما شاع وذاع من مدارس".
وهو يشير الى أن هذا الميل الى التقليد هو "ميلٌ يشاء أن يأخذ الاسلام كنظامِ فكرٍ وعمل، مأخذ هذه المذاهب الحديثة التي شاعت بفتنتها وشاعت باستهوائها. وكان محموداً لو أن كبير أمره وقف عند حدّ الإفادة منها، بما يزيدنا عمقاً في فهم جوهر الاسلام واستجلاء خوافيه وإظهاره للناس بعُري حقائقه الكريمة، وأعني بمظهره الحق، وهو مظهر بكرٍ فريد.
أما أن يقيم القاعدة على القاعدة، فمزلَقٌ خطر... وإذا قُدّر لهذا الأسلوب وانتهى الى شيء، فليس الا الى مسخٍ وتشويه".
تبدو الثورة واضحة في ما ذكر، من أجل تصويب الصورة، ومقاومة عمليات التشويه التي تراكمت عبر التاريخ. الهمّ عند العلايلي واضح: تظهير صورة منيرة تُفصح عن مكمن القوة في الاسلام، وإدخاله في إطار علمي رصين، يقارب الأمور في حقيقتها، ويتعاطى معها كما هي. إنه نوع من نزع الأسطرة عن الدين، الأمر الذي اختبرته المسيحية واليهودية من قبل حين تمّت مقاربة كل دين من زاوية علمية وموضوعية تستند الى ما تمّ التوصّل اليه من طروحات في علوم الانسان والمجتمع واللغة.
حارب التحنيط بقوة، وانتصب في وجه التجميد. اعتبر "أنَّ القُرْآنَ هُوَ مَصدَرٌ أَصلِيٌّ لِلْفِقْهِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَا لَم تَكُن مُتَوَاتِرَة". هذا التمييز بين النص الأول، والنص الثاني، بين الوحي، وتفسيره، بين ما أنزل وبين كيفية تلقّيه وفهمه، أمرٌ فيه الكثير من التمرّس في الفكر النقدي، ومن الرغبة الجامحة في استجلاء الحقيقة، بعيداً عن عمليات الإسقاط والتشويه التي تتعرّض لها من قبل بعض الممسكين بزمامها.
كان العلايلي منهمّاً بكيفية القيام بالتشريع انطلاقاً من المدى الأوسع وعدم التضييق على المشتغلين فيه ولجمِهم عن الإتيان بجديد. يبغي تحرير الفكر والمجتمع ومناهج السلوك من القوالب الجامدة، مستشهداً في هذا السياق بحديث شريف يقول: "إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدّد دينها". يرى في ما يحتويه هذا الحديث دستوراً كاملاً "لحركية الشريعة و"ديناميتها" في مجال صيرورة الزمن، فهي تجدّدٌ دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل، فشأنها أنها غضة الأماليد أبداً".
واضح كم أن العلايلي منسجمٌ مع القوانين الطبيعية والبيولوجية عندما يركّز على التجديد إذ يعتبره سُنةً تحكم الكائنات الحيّة وبخاصة الانسان. فالتجديد مسارٌ طبيعيٌ يرافق البشرية في تطورها وإنتاجها الحضاري. من هنا نراه يؤكّد على أن " لا قوالب ولا أنماط ولا مناهج ثابتة بل تبدّلية عاملة دائبة. وكل توقف في التكيّف داخل أطرٍ، يُصيب الأفراد والجماعات بتحجّر يؤول الى حتمية تخلّفٍ، بل انحدارٍ ذريع...".
إن تشديد العلايلي على أهمية التجديد والتغيير يتضمّن نقداً صريحاً لمن يهوى التقوقع ويطمئن الى السكون في التقليد. من هنا يبدو واضحاً كم أنه إبن بيئته، يترصّد الواقع من حوله، يتأمل في تبدّلاته، يحفر في أحداثه المتسارعة، ويستنتج الخلاصات النقدية اللازمة. هدفه إصلاحي، يضع الإصبع على الجرح العربي كما الإسلامي عندما ينتقد هذا الجنوح العارم نحو التحجّر والتمسّك بالنموذج الأسبق، وعدم السماح لشروط الواقع الجديد بأن تقول كلمتها. إن نظرنا في الشأن الإسلامي نلحظ أن الواقع يئنّ تحت وطأة صراعات دامية تتنافس في ما بينها لتثبت قربها من التقليد ووفاءها للماضي السحيق وانضباطها بالقوانين والأحكام الغابرة. لا يختلف الأمر كثيراً في ما يتعلّق بالشأن العربي، حيث الواقع المأزوم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، لكن النهج المتبع في العلاج لا يعطي للواقع حقه ولا يكترث بالتبدّل الحاصل، للأسف، ينحصر الأمر بالبكاء على الأطلال، والنعي، والتهجّم على الآخر الذي نضعه دائماً داخل دائرة الاتهام.
يرى محمد عابد الجابري في سياق تفكيكه للعقل العربي بأنه عقلٌ يحنّ باستمرار الى نموذجٍ سبق. إنه عقلٌ يهوى القياس، قياس الحاضر على الماضي، قياس الفرع على الأصل، لكي يتمّ إصدار الحكم واتخاذ القرار. وكأن العربي لا يثق بحاضره، أي لا يثق بنفسه البتة، يحتاج دوماً الى مرجعية تراثية تأذن له بالقيام بأفعاله، أو تحكم له بالصواب والخطأ، فتوجّه خطواته باعتباره قاصراً على الدوام. يعلن بصورة دائمة تفوّق الأجداد على الأباء، والآباء على الأبناء. ثم يستنتج الجابري أن العقل العربي عقل قياسي، عقلٌ يسكن الماضي، ويغترب عن الحاضر. يمجّد الماضي، ويحتقر الحاضر.
لم يشأ العلايلي الاكتفاء بالنظر التقليدي الى الدين، انما راح يقاربه من زاوية فكرية منفتحة على المجتمع والتاريخ والانسان. انتفض في وجه التخلّف والتقوقع، فشكّلت الثورة نهجاً واضحاً في مختلف مقارباته الفكرية. نظر الى الإنسان في جوهره، في عمق قيمته، وليس انطلاقاً من انتمائه الطائفي أو العقيدي. قناعاته راسخة بأهمية التنوّع وما من شأنه أن يُسهم به من انفتاح وغنى ودعوة الى إبحار متجدّد نحو أفق الانسنة. منفتحٌ على قبول التعدد، قارب باحتراف ظاهرة الاختلاف. تنبّى شعار أحد المتصوفين في ما يتعلّق بالبحث عن الله: "الطرائق بعدد أنفاس الخلائق"، فلم يقبل بحصر النهج المؤدّي الى الحق بزاروب واحد، لأن المدى رحب، والمسافرون فيه كثر، وما على الإنسان الا أن يجتهد في إيجاد السبيل الأفضل للبلوغ الى الهدف المنشود.
الانسان بالنسبة الى العلايلي هو القاعدة التي تُبنى عليها مسألة الهوية، الى أي دين أو مذهب انتمى. دفن الطائفية وقهر التعصّب في سبيل إرساء قواعد متينة لمصالحة الدين مع الحياة. في نظره، لا تتفق الأنسنة مع التخشّب القابع وراء النص الفقهي بعامة، كما أنها لا تقبل بالتحجر الراسخ في الخطاب الأيديولوجي الضيق. إعداة النظر في الأحكام والأقوال والأفعال لا تعني أبداً الخروج عن الدين، إنما هي خطوة معرفية واجبة وضرورية من أجل تحقيق المعرفة. بات من الملح فعلاً بنظر العلايلي مصالحة الدين مع الحياة، وإرساء العلاقة الموزونة بين الأمس واليوم، بين التقليد والتجديد. كما أن شعاره المعروف خير دليل على ذلك: "لَيْسَ مُحَافَظَةً التَّقْلِيدُ مَعَ الخَطَأِ؛ وَلَيْسَ خُرُوجًا التَّصحِيحُ الَّذِي يُحَقِّقُ المَعْرِفَةَ".
يميّز العلايلي في إطار حديثه عن الدين الطبيعي بين مفهومين للدين قائلاً: "الدين في منطق رجاله غير الدين في منطق الله وكتبه، ونحن لا نريد أن نتعرّف الى الأول، ونودّ أن نعرف الثاني". انه يصرّ على التفريق بين هاتين المقاربتين لكي ينصف الدين ويُظهر ما تعرّض له من تشويه.
يعتبر أن الدين من منظور رجاله أسهم في تعميق الهوّة بين الطوائف والجماعات، وذلك على الرغم من "أن تعاليم الأديان تغرس مبادئ مثالية صالحة تُعدّ الانسان إعداداً حسناً للعيش مع أخيه الانسان، فكيف مع مواطنه". لكن تدخّل رجال الدين الذين يصفهم بـ"ذوي الأثرة من الأشخاص" أدّى الى السيطرة على المؤمنين، مسخّرين الدين لإرضاء جشعهم ولخدمة نفوذهم. إنتبه رجال الدين الى أن هذا الأخير، أي الدين، يشكّل أقوى وسيلة للدخول الى النفس الانسانية، فاستغلّوه عن طريق النفخ "في بوق الاختلاف"، وتمكّنوا من خلق الشقاق خدمة لمكانتهم ومصالحهم الشخصية. راحت جموع المؤمنين تتنازع وتتناحر ليس في سبيل الدين، والايمان الحق، وإنما قدّموا أرواحهم على مذبح أهواء رجال الدين الضالّة. هنا يكمن جوهر المشكلة التي تصدّى لها العلايلي من وجهة نقدية. لم يقبل بالرضوخ لعملية تحجيم الدين، وسجنه في إطار مؤسّساتي ضيّق، له شروطه، وظروفه، ومصالحه الخاصة.
لذا يفضّل العلايلي التحدّث عن الدين الطبيعي، "لأنه ينبع من أعماق جوهر النفس، ولأنه صاحَب الانسانيةَ منذ فجر خروجها من الكهف، ولأن الأديان عامة اتفقت على قضاياه، وقرّرتها كشيء جوهري". يرى أن الدين الطبيعي هو "رمزٌ قمينٌ" بأن يسكب الروح في عمق القومية العربية، وهو من شأنه أن يعين فكرتها على اختراق التجرّد والتحليق في رحاب السموّ المثالي. يرى أن المناداة بالدين الطبيعي لا تعني البتة ابتداع دينٍ جديدٍ، ولا رفض الدين المنزل، إنما يفهم الدين الطبيعي باعتباره "مقدمة الى كل دين"، وليس "ديناً مستقلاً له طقوسه وشعائره". نجده يؤكّد في هذا السياق على أن "المسلم يجد في الدين الطبيعي مقدمة الى الإسلام وكذلك المسيحي".
يركّز العلايلي على أمر مهم يريد من خلاله أن يشير الى أن الدين لا دخل له بالقومية، لكنه في الوقت عينه يفسح للدين بـ"أسمى محل" في عمق القومية، وذلك من أجل ترسيخ المُثُل السامية. يضيف قائلاً: "وأستحسن في كتب الدين الطبيعي أن تكون الشواهد من كتب الأديان الثلاثة في كل قضاياه الاعتقادية والأخلاقية، وبذلك يجد الناشئ ائتلاف الديانات واعتناقها اعتناقاً عملياً صحيحاً، فيندكّ الصرح الذي جهد بإقامة دعائمه رجال الدين المغرضون".
واضح هنا الهمّ التربوي عند العلايلي، فهو يريد من خلال تنشئة الأجيال على الدين الطبيعي أن يقفل الطريق أمام التعصّب والتقوقع ونفي الآخر وتكفيره. إنه يبدو في هذه النقطة تحديداً صاحب رؤية، منفتحاً، رافضاً الغرق في القشور والاكتفاء بخطابات المغرضين من رجال الدين الذين يبتهجون في تحقيق الشرخ، واحتدام الخلاف، إذ ان في ذلك مبرّراً لوجودهم. إن التحدّث عن الدين الطبيعي في وسط الكلام على القومية هدفه الحفاظ على القيم، والفضائل، وآداب التعاطي مع الآخر، وإبراز ما هو مشترك بين الأديان، علّها تنتفي بذلك أسباب الصراعات الدموية والعبثية.
يحضرني هنا الكلام على المشروع الذي تقدّم به محمد أركون للرئيس ميتران في فرنسا، يوم كان رئيس قسم الدراسات الاسلامية في السوربون. كانت لمحمد أركون نفس الرؤية، ونفس الهمّ الذي رأيناه عند العلايلي. أراد أن يجمع في اختصاص واحد تاريخ الأديان المقارن، لكي يقدّم نظرة علمية وموضوعية عن مسعى كل دين لبلوغ الحقيقة. سعى من خلال طرحه الى أن يبرز المشترك بين الأديان إن على صعيد المنهج، أو الأخلاق، أو السلوك، أو التصورات الماورائية، أو استخدام الرمزية، ودور السياسة وأثرها في السلطة الدينية، وغير ذلك من أمور جوهرية يمكن أن نجدها في كل دين. ركّز في كتابه "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية" على الأزمة التي يعيشها العالم العربي الاسلامي المعاصر بسبب الانغلاق داخل السياج العقيدي الضيّق الذي يوفّر مناخاً للتباعد والتخاصم ورشق من هو مختلِف بأبشع التُهم. لذا يصف أركون تصوّره الخاص بالأخلاق بأنه "تصور نقدي بشكل راديكالي". يقصد بذلك "أنه لا يحصر نفسه بتعاليم دين محدّد يعتبر نفسه أفضل من كل الأديان الأخرى، كما لا يحصر نفسه بذلك التصور الدوغمائي الضيّق للأنوار، ذلك التصور المضاد بشكل فج للأديان التقليدية من دون أن يُكلّف نفسه عناء المرور بمرحلة النقد الذاتي أو تطبيق المراجعة العقلانية على نفسه".
كذلك نجد أركون يشير الى أمر لا يتعارض فيه مع العلايلي بخصوص الأديان قائلا: "جميعنا مسجونون داخل طوائفنا واعتقاداتنا ويقينياتنا المطلقة التي تمجّد الذات وتبجّلها وتعتبرها حقيقة مطلقة، في الوقت الذي تُحتقر فيه عقائد الآخرين وتعتبرها محرّفة أو مزيّفة أو باطلة".
يلتقي العلايلي مع محمد أركون في هذا السياق معلناً: "نحن في الواقع لا نشكو مرّ الشكوى من داء الأديان ذات الأسماء المختلفة، وإنما نشكو من داء زعامة الأديان الشهوانية المغرضة الماثلة في أشخاص شهوانيين مُغرضين، وإلا فالمسيح جاء بمبدأ السلام العام الذي يحبّب المسيحي المتّبع للشريعة وحدها الى كل قلب؛ ومحمدٌ جاء بمبدأ السلام العام المشتق من السلام أيضاً، ولكن زعماء الأديان لا ندري بأي وسائل جهنّمية استطاعوا أن يجعلوا السلام حرباً، ويحوّلوا غصن الزيتون سيفاً قاطعاً في أيدي الجمهور الساذج".
هذه المقاربة النقدية لما فعله رجال الدين بجوهر الدين تُفصح عن جرأة صاحبها، وانفتاحه، وعمق نظرته. ليس من المألوف أن نجد إنساناً كالعلايلي له رمزيته ومكانته يقوم بنقد الدور السلبي لرجال الدين، مميزاً بين الدين الطبيعي والدين المؤسساتي، مظهراً الأذية التي تسببوا بها على أكثر من صعيد. مدّ جسور التلاقي بين ما يبدو مختلفاً. وجّه إصبع الاتهام نحو المنطقة المحرّمة. لم يشأ المراوغة ولا المهادنة. همّه معرفي، إتجاهه اصلاحي، منهجه نقدي محترف. يلحظ بوضوح أن "كل تنازع وقع في الوطن العربي، إذا درسناه في جوهره، ظهر أنه بأصابع رجال الدين وتشجيعهم". يوجّه اليهم القول صراحة: "إن الأديان اتفقت في الجوهر والأهداف، واختلفت في الوسائل والطرق فقط، والاختلاف في الوسائل لا يكون سبباً في الاختلاف، فليتّبع كلٌّ منا طريقته في الاتصال بالله الذي هو حقٌ للجميع". لا يكتفي بهذا الحد إنما نجده يصعّد النقد مطالباً رجال الدين بوقف "التغرير بالجمهور الساذج"، ويطلب منهم أن يستعدّوا وحدهم لخوض "معركة السماء المستقبلة، فإننا جميعاً على الأرض متفاهمون".
يمكننا أن نستخلص من خلال ما قدّمه العلايلي التحديدات الآتية لمفهوم الدين انطلاقاً من بُعديه الفردي والجماعي:
1- الدين في جوهره لُبانة كل نفس وينبوع الالهام ومصدر التأملات التي تغمرها نشوات خفية لاذّة.
2- الانسان كائن معتقد بفطرته، لذا منبت الدين ضرورة فطرية وحالة تطمئن اليها النفس.
3- الدين حقيقة أفضت بالانسان الى بلوغ حدّ التفريق به بين الخير والشر من تلقاء نفسه.
4- الدين صلة تربط الفرد بالمجموع. انه القانون الأدبي الذي يترك للإنسان أقصى حرية معقولة في اختيار طريق حياته.
5- الدين مبدأ لتزكية النفس يُعدّها للقيام بواجبها في الحياة الاجتماعية، ويُحرّرها من المنفعة الشخصية.
6- قوة الإحساس الديني في الجماعات غايتها الرقي الاجتماعي لأنه يقوي الغيرية ويضعف الانانية، وذلك عن طريق إنكار الذاتية الفردية في سبيل المجموع.
7- الدين يعطي الانسان القوة التي يُخضع بها عقليته لإحساسه بالشريعة الأدبية أو لشعوره بالواجب تجاه الجماعة. فالدين يزوّد الانسان بوازع أبعد من عقليته، يضبط سلوكه نحو المجتمع، في حال تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة المجموع.
خلاصة القول، نجد أن العلايلي يحصر تعريفه الدقيق بالدين في نقطتين وفق ما يأتي:
"الدين عقيدة تتلخّص في أمرين اثنين لو جمع الانسان بينهما لكمُلت ذاتيته بصفته فرداً صالحاً من جماعة تضرب في أصول الارتقاء بسهمٍ بعيد:
(1) الاعتقاد بوجود قوة مدبّرة حكيمة عالمة سرمدية لا تدرك حقيقتها العقول البشرية.
(2) إن الدين شريعة أدبية تؤدّي بصاحبها الى أبعد غاية من الارتقاء، وإجلال المثل الاأعلى من الأخلاق ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة".
من هنا نجد العلايلي لم يكتفِ بنقد رجال الدين كونهم قاموا بتشويهه، إنما يتوجّه أيضاً نحو بعض الفلاسفة الذين قاوموا روح الدين، وجعلوا العقل حدّ الدين، فخرجوا عن شعور الجماعة وروحها الأدبية، فقتلوا بذلك دين الطبيعة. ينتقد الفلاسفة الذين جعلوا من "عقل الانسان وحده هادياً ومرشداً أميناً، بحيث يختطّ لهم خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تَحفظ نظام الهيئة البشرية المدعّمة على أساس الإحساس الأدبي، فأُخفقوا سعياً وضلّوا سبيلاً".
من الملفت هنا أن العلايلي لم يعيّن أسماء الفلاسفة الذين تعرّض لهم بالنقد، ولم يُحدّد بالضبط كيفية إخفاق هؤلاء في نيل مبتغاهم، لكنه يذكر تالياً أنه يقصد بهم "زعماء المادية" والوضعيين. نجده يشدّد من خلال نقد الفلاسفة الماديين على أمر بغاية الأهمة يسمّيه بـ"وازع ما بعد العقلية"، وهو الذي يتكفّل بضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات. لذا آمن به الناس باعتباره أول عنصر من عناصر المعتقد الديني. من هنا توقه الى المنحى الفطري أكثر من المكتسب، وتشديده على الدين الطبيعي الذي يتفلّت من ضوابط العقل الصارمة التي قد تشوّه "الغريزة الإنسانية التي هي أصل الدين"، وفق ما أشار اليه علماء الاجتماع، على حدّ تعبير العلايلي. ويضيف نقلاً عنهم: "ما من معتقد من معتقدات الانسان في مقدوره أن ينقلب في نظر الفرد ديناً يدين به مع خضوعه لتطور المجتمع ذاته، ما لم يكن من طبيعته أن يهيّئ الفرد بوازع مما بعد عقليته يضبط سلوكه نحو الجماعة التي يلحق بها، أو بالكل الاجتماعي في مجموعه؛ وإن الاعتقاد بإمكان وضع دين يرجع الى العقل وحده، بحيث يكون في مستطاعه أن يضبط علاقة الفرد بالجماعة حال تطورها، وهي متطورة على الدوام، أمرٌ مستحيلٌ علمياً وعملياً".
من الواضح هنا تركيز العلايلي على البعد الاجتماعي للدين، وعلى الدور الذي يلعبه في ضبط سلوك الفرد وحفظ حقوق المجموع، عن طريق إخضاع المصالح الخاصة للمصالح الاجتماعية العامة. ان في هذا التحديد للدين دليل واضح على البنية المعرفية للعلايلي التي تلتقي الى حد بعيد مع علم الاجتماع والانتروبولوجيا والفلسفة في مقاربة الدين. كذلك نلفت الانتباه الى أن العلايلي لم يكتف بالتحديد التقليدي للدين، ولم يحصر مقاربته بالمنحى الروحي فقط، انما حاول الاحاطة بموضوعه من أكثر زاوية، متميّزاً في ذلك عما قدّمه الآخرون من تعريفات تقليدية ومقاربات ضيّقة محصورة بمدرسة دينية معينة أو بأخرى.
لم ينهمّ العلايلي بالدين الاسلامي فقط، انما درس الدين بعامة، باعتباره ظاهرة اجتماعية، وكأننا به يضع كل الأديان على مستوى واحد، من خلال التوقف عند الدور الذي لعبوه في حياة الفرد والجماعة على حدّ سواء. لم يقبل بإجحاد الماديين بالدين، كما رفض التعريف الضيّق لرجال الدين. لم يتموضع في مكان واحد يقارب من خلاله ظاهرة الدين في المجتمع، إنما نراه قد حاول الاستفادة من أكثر من نظرية، لكي يحيط بموضوعه قدر المستطاع. ميّز بقوة بين الدين ودوره في المجتمع، باعتباره من "الضرورات الاجتماعية"، من جهة، وبين الممارسات الدينية، والواجبات والفروض والمعتقدات التي تميّز كل دين عن الآخر، من جهة أخرى. هذه النظرة الى الدين تجعل العلايلي واثقاً من أن الماديين لن يجحدوا بها، كونها ترتكز على الواقع المعيوش، على الطبيعة البشرية والاجتماعية، على الواقع الانساني عبر التاريخ. من هنا نجده يسأل ختاماً، ويدلي بالجواب الحاسم وفق ما يأتي: "هذا هو الدين وأثره، فهل يجحده بعد ذلك الماديون؟ وهل في الامكان إقامة صرح قومي بعيداً عنه؟ أظن الجواب سلباً؛ فإنه ما من مدنية قامت في التاريخ إلا وتركّزت على رمز أدبي خالد، فإذا مال الى الانحلال كان نذيراً بانحلال المدنية وتقلّصها وتداعيها المحتوم".
واضحٌ مما تقدّم، كم أن دين العلايلي منغمسٌ في الحداثة الفكرية، ومتآلف مع النقد، وإعادة النظر المتتالية بالثوابت، والخرق المتكرّر للحدود الضيقة، والتفلّت من القهر والاستعباد. لذا من الضروري أن نطرح تالياً سؤال المنهج، لنبحث في ما يكمن وراء هذه الجرأة، وهذا الانفتاح اللذين لا نعثر عليهما لدى الكثير من المتديّنين ورافعي لواء الدفاع عن الدين الحق. ما أهمية المنهج النقدي في مقاربات العلايلي للمسائل الفكرية؟ كيف انبنت مداميكه؟ وما هي أبرز تطبيقاته؟
2- أسس المنهج النقدي عند العلايلي: دراسة المعري نموذجاً
"ليست تمنعني غرابةُ رأيٍ أظن أنه صحيح أو أعتقد صحتَه من إبدائه، كما لا يحولُ بيني وبين رأيٍ أنه قليلُ الأنصار. فإن الحقيقة لم تعُد تُنال بالتصويت، كما أن الانتخاب من عملِ الطبيعةِ وهي لا تُغالط نفسها كما لا تَعمد الى التزوير".
يبدو أن التنظير في مسألة المنهج من خلال وضعه تحت مجهر التساؤل والمراجعة الدائمة، قد جعل المعرّي يعيد النظر في أمور عدّة، كانت تُعتبر من الثوابت المتعارف عليها. يمكن أن نلحظ أن انشغاله بتحديد الدين، وما توصّل اليه من تعريفات، كان ثمرة هذه الرؤية المنهجية الحديثة التي تعتمد النقد سبيلاً، والمساءلة أداةً، وإعادة النظر في ما هو مألوف مسلكاً ضرورياً.
لم يغفل عبد الله العلايلي عن التوقف عند المنهج باعتباره الطريق الموجّه لأي مقاربة فكرية. نراه عندما يبدأ بدراسة فكر أبي العلاء المعرّي،على سبيل المثال، يعرض لأهمية التساؤل حول المنهج، إذ إن في ذلك خطوة هامة تحدّد مسار الدارس لأي موضوع فكري يختاره. يقول: " على أن من المفروغ منه، أن من درس أي إنتاج، فنيّاً كان أو أدبياً، فلسفياً أو علمياً، يقتضينا الطريقةَ أو المنهجَ قبل كل شيء، وهذا بالتالي يضعنا أمام نتائج معينة، وإن بدت متفاوتة، لأن مردّ تفاوتها، من بعد، قدرة الباحث على التناول. أما إذا كان العكس، أي بحثٌ ولا منهج، فهناك الارتجال والابتسار".
واضح هنا قلق العلايلي المعرفي، وابتغاءه الدقة والرصانة العلمية في البحث. انه ينتقد الدراسات التي يصفها بـ "غير الممنهجة"، حيث نجد أن الدارس ينهمّ بإبراز نفسه، فيسمح لها أن تُلفّق الدراسة التي ينوي أن يقوم بها كما يريد، فيقدّم النتائج التي يجدها هو مناسبة. لذا قام العلايلي بنقد قسم كبير من الدراسات التي أنجزها كثيرون قبله حول فكر المعري، نظراً الى أنها خالية من "طريقة منهجية تحرص على اتجاه بعينه، فكانت مميّلة بين فروض شتّى ألقت بنا من ورائها في تخبّط كبير، زادنا بالمعري وحشة واستخفاء...".
كذلك عندما يتوقّف العلايلي عند التاريخ العربي نجده ينتقد المؤرخين المحدِثين ويلحظ إخفاقهم لأنهم لم يوفقوا "الى إقامة التاريخ العربي على سنة منطقية وقاعدة نقدية، تحتفل بتبيان العوامل التي من شأنها أن تهيّئىظروف التاريخ المختلفة، وتحدّد له الاتجاهات، وتفرض عليه الحركة حين يجب أن يتحرّك، والسكون حين ينبغي له أن يسكن. هذه الدوافع التي نصل بها الى تمام الغرض العلمي اذا ما أعطيناها كلمة "الحيوية التاريخية"".
لفتني نص لدى العلايلي يتوقّف فيه عند مصطلح الارتياب في سياق حديثه عن أهمية الثورة والفوضى، حيث يبرز أهمية الشك كنهج في التفكير، وكمحفّز على الابداع والتغيير. يقول: "وكلما كانت الامة أكثر ارتياباً في المثل كانت أحيا وأغزر إنتاجاً. وهذا تفسير ندخل به على كل شُعب المعرفة أيضاً، فنظرية كوبرنيك في النظام الشمسي ارتياب في المَثَل الفلكي، ونظرية ديكارت ارتياب في المثل المنهجي،(...)، وكذلك نظريات داروين وكانت وماركس، وهذه ثورات علمية وأدبية لأنها تُداور فكرة بعينها في محاولة الوصول اليها. وإن أفكار أبي العلاء ارتياب في المثل الدينية والأوضاع، وأفكار نيتشه ارتياب في النظام العام، ونظرية اللاأدرية ارتياب في عناصر الفكر المنطقي، وهذه فوضى في الفكر لأنها لا تتمثل هدفاً معيناً".
نجده هنا يثمّن الارتياب ويجعله في أساس التطور والتقدّم والعمل على إيجاد حلول للواقع المأزوم، وهو في ذلك يتوجّه عربياً واسلامياً ليلفت الانتباه الى ضرورة الغوص في بحر الارتياب من دون خوف من الفوضى ولا من الثورة لأنهما تحفّزان على التفكّر والإبداع.
إن التحدّث عن النقد في فكر العلايلي يفتح لنا مجالات اشتغال عدّة، لن نغوص فيها في هذه الدراسة، لكننا أردنا أن نلفت الانتباه الى الهاجس النقدي لديه، والى يقظة إحساسه بالخطأ، ورغبته في تقديم ما هو أفضل. لذا، نرى أنه عندما أراد أن يكتب تاريخ الحسين، كما عندما أراد أن يدرس فكر المعري، توقّف في الحالتين عند مسألة المنهج، أي عند كيفية كتابة التاريخ، وعند شروط دراسة فكر كاتب ما. لقد قام في الحالتين، دراسة تارخ الحسين وفكر المعري، بمراجعة الموازين المتّبعة، والمعايير المعتمدة من قبل. أعاد الأحداث الى البيئة، والمجتمع، كما أعاد تحقيق النص والتحقّق منه، لذا لم يكن الشك عنده أمراً محرّماً ولا مستبعداً، إنما خطوة منهجية لا بدّ منها من أجل الكشف عن الحقيقة وتنقيتها مما أصابها عبر الزمن من تشويه. في ما يتختصّ بكتابة التاريخ، نلحظ العلايلي يرسم منهجاً من أربع مراحل، تبدأ بالتجميع، فالنقد، ثم التأويل، لتُختتم بصياغة القصة التاريخية.
لن نتوقف هنا كما ذكرنا عند كيفية مقاربة العلايلي لتاريخ الحسين بخاصة، ولمسألة كتابة التاريخ بعامة، لأننا سنكتفي بما قدّمه من تنظير بخصوص موضوع المنهج انطلاقاً مما توصّل اليه في سياق بحثه في فكر المعري. لذا سنتوقف في نقطة أولى عند المنحى النظري، وكيفية مقاربة العلايلي لمفهوم المنهج بعامة، وللمنهج النقدي بخاصة، ومن ثم سننتقل الى المنحى التطبيقي لكي نرى كيف استخدم العلايلي ما سبق أن حدّده ضمن تصوّره الخاص لنظرية المعرفة عند المعري.
أولاً: المنهج موضوعاً للتنظير
نلحظ أن العلايلي من خلال نقده للدراسات السابقة حول المعري يكشف لنا عن منظوره الخاص لمسألة المنهج. يبدو جلياً أنه يشدّد على بناء أي دراسة وفق "طريقة منطقية أو موضوعية يستقيم لها أن تُفرغ من صيغ منهجية، من شأنها أن تُسلِمنا الى نتائجها إسلاماً عفوياً، في اتفاق أو اختلاف يسير".
يشير في السياق نفسه الى أهمية الطريقة التي توجّه دراسته وذلك أكثر من الدرس نفسه، ما دام أن هذا الأخير لا يعبّر الا عن جهد شخصي، وهو برأيه "لا يكون مشتركاً، فكيف يصلنا ممن ندير البحث عليه، في قطع وتأكيد.
أما حين يدخل الدرس، أي الجهد، عنصر الطريقة، فمعناه أن الجهد الشخصي انطلق من قاعدة موضوعية، وتخصّب بنواة تخمّره، وقيمتُه تكون بمقدار اتصال هذه الظاهرة، ظاهرة التخمر، في نواحي الدرس أو عدم اتصالها".
ان هذا التنظير لمفهوم الطريقة يشير الى انهمام صاحبه بالموضوعية وعنايته بالمنحى النقدي. انه من دون تردّد يختار الدقة سبيلا في دراسة أي فكر، لذا يفضّل الكلام على المنهج الذي من خلاله تتم مقاربة موضوع الدراسة. نرى أن في ذلك إشارة واضحة الى تكوين العلايلي المعرفي، ومدى حرصه على تقديم أعمال فكرية مُمنهجة، لا تضيع في فوضى الإرتجال، والتسرّع في الحكم على الأمور. يلحظ أن هناك في دوائر البحث على تنوعها "اهتماماً أشدّ بالطريقة، ولذا نحسّ عند النقد أيضاً، تحت هذه الرغبة، بميلٍ ملحّ الى تصنيف الأدباء مثلاً ضمن مدارس، ليكون نقدهم أكثر تحديداً للطريقة وإلماماً بها. وبديهي أن الدارس لن ينتهي الى فهم حقيقي لأي أديب من أية مدرسة، إذا لم يكن ملمّاً بمناهجها التي استنّها أسلوباً وسبيلاً الى التوليد والإبداع".
من البيّن في هذا السياق كم أن العلايلي يتمتّع بوضوح الرؤية، وبالنظر المنطقي، كما أنه يحرص على اعتماد منهج دقيق في عملية توليد الأفكار وإبداعها. إن في ذلك إشارة واضحة الى تركيبته المعرفية التي تحارب الشطط والضياع والإنفلاش في المسائل المعرفية. حتى الإبداع والعبقرية يخضعان بالنسبة اليه الى نمط خاص من الطرق والمناهج. فهو يرى أن العبقرية في حدّ ذاتها هي عملية تحرّر من قيود طريقة معينة، والتفلّت من قبضة نهج محدّد، وذلك عن طريق شقّ طريق خاص يلتزم بها المفكر في أبحاثه. بتعبير آخر، حتى الإبداع نفسه لا يتمّ خارج عن إطار المنهج. يضيف قائلاً: "وربما كانت الطريقة أهمّ نواحي العبقرية فيما تهدّت اليه، وهذا جليٌّ كالضحاء، فما من عبقرية إلا وأبرز ما فيها الطريقة التي تحضّ على منهج في الفكر، لا يلبث حتىى يغدو طابعاً ثابتاً يمدّ الأحياء وأفكارهم بألوان جديدة، ويُغريهم بأشياء من الخلق والابتكار".
يعود العلايلي الى الفلسفة اليونانية لكي يلفت الانتباه الى أن عظمة ارسطو لا تكمن فقط في "التفسير والتعليل الفلسفيين"، إنما تظهر أيضاً في "طريقته المنطقية" التي أسست للنظر الفكري المجرّد. لذا فهو يرى أن العمل على إيجاد الطريقة الأنسب لاختراق فكر أي عبقري يشكّل العملية الأصعب، والأهم، والأكثر إلحاحاً. من هنا يعتبر أن فهم أي أديب أو فيلسوف لن يتحقّق طالما أننا لم نتمكن من الغوص في الطريقة التي اعتمدها في أبحاثه، والتي وجّهت مساره الفكري. "حتى أن الطبيعة نفسها، وحتى جهدنا الفكري الكادح حيالها، بل كل ما أعطى الفكر البشري ويعطي من إنتاج فلسفي وعلمي وحيوي واجتماعي وفنّي، ليس أكثر من أنه بحثٌ في الطريقة الثابتة في الطبيعة والحياة والفكر، الذي أبدع في نفسه المجهول والمطلق والتجريد...".
انطلاقاً مما تقدّم، نجد العلايلي يشير الى أهمية القيام، في ما يتعلّق بفهم المعري، بالجهد الكافي في سبيل الكشف عن طريقته الفكرية والتمكّن من استخدامها لكي ننجح في الوصول اليه والولوج الى عمق فلسفته. ويرسم خطته المنهجية لبلوغ الهدف وفق الخطوتين الآتيتين:
أولاً: بذل الجهد الكافي من أجل الإبانة عن الطريقة النظرية التي فكّر بموجبها المعري.
ثانياً: الإنهمام بشرح أفكاره وعرضها وفق الطريقة المعتمدة من قبله وما بذله من جهد، مع الأخذ بالاعتبار محدودية الخيارات المتاحة.
يذكر العلايلي ما أورده سابقاً في كتابه "دستور العرب القومي" حول خطواته المنهجية مشيراً الى أنه كان يعمد الى عرض شروحه "عرضاً خالصاً دون ما تحكّم"، إذ يرى في التحكّم "إغفالاً للعقل العام وتغريراً بالنفوس المتفتّحة المتقبّلة، ودون ما تحدٍّ لأن الصراع الفكري يفقد روعته وجلاله في عصبية الرأي ونزعات الشخصية". ويتابع مركّزاً على قيمة النقد قائلاً: "المصنفون الذين يحترمون الاستعداد الانساني لا يكتبون لكي يتابعوا، بل ليصححوا تفكيرهم بالنقد، والتفكير العام الشائع أيضاً. ولا ينقدون لعبث أو شهوة، لأن النقد الشهوي يبلبل فكر الجمهور، ويلقيه في حيرة مما ينبغي أن ينقتنع به ويضيفه الى مجموعته العقلية".
يلحظ العلايلي في سياق تقديم المنهج الذي سيدرس من خلاله فكر المعري، أن أي مفكر سبق له أن ترك لنا نتاجاً معيناً فهو، أي هذا النتاج، بمثابة أحرف الأبجدية التي سيستخدمها غيره. بتعبير آخر، لا يمكن لأحد إلا وأن يتأثر بفكر غيره، فيأخذ عنه، أو يردّ عليه، أو يتفاعل معه. لذا كان على الدارس أن يقبل بعملية اتصال المفكر بالثقافات الأخرى ويقرّ بها كمعطى بديهي لا بدّ منه، من دون التوقف عند التفاصيل الضيقة وملاحقة كل فكرة من مصدرها للإشارة الى حضورها لدى المتلقّي، لأن في ذلك دوران حول النفس من دون جدوى، وهو بمثابة الجهد الضائع. يرى أن منابع الفكر وأصوله متعدّدة ومتشعّبة ومتداخلة في آن، وهي كأحرف الأبجدية، ما إن تُنتج حتى يتلقفها الآخرون ويستخدمونها لكي يقوموا بدورهم بتركيب كلمات وبالتالي عبارات ذهنية جديدة، لا تخلو من الإبداع.
يؤكّد العلايلي على "أن كل ما سبق وأعطاه المفكرون من إنتاج، يؤلّف "أبجدية للفكر" مثل الألفاظ تماماً، والذين يلون فيُركّبونها ألفاظاً فكرية في دورٍ، وجملاً فكرية في دور آخر، وتراكيب أسلوبية في دورٍ فوق ذلك، وأيضاً يَمضون فيقرؤون بها منتجات الأفكار، المتّصلة التوليد، الدائمة الابتكار. (...)
فما من فكر متميّز الا وهو متأثّر بقصدٍ ودون قصد، وما من فكر متميّز الا وهو مبتكِرٌ في نسب كبيرة أو قليلة، واسعة أو ضيقة".
هذه الرؤية المنفتحة التي تخرق الآفاق الضيقة لتعترف بكونية الفكر، وبسَفر الإبداع في تنقّلٍ لا يستكين، تفضح لدى صاحبها نوعاً من الارتقاء فوق الحدود التي غالباً ما تحجّم المفكر، وتحصره في أطر خانقة. إن المنهج الذي اتّبعه العلايلي في دراسة المعرّي، أراده منفتحاً، لا يدور في خضمّ البحث عن مناحي التأثر البارزة هنا أو هناك بإخوان الصفا أو بغيرهم من المفكرين الذين سبقوه، إنما المهم بالنسبة اليه، التوقف عند رصد مكمن الإبداع لدى المعري. بالنسبة الى العلايلي، تأثّرُ أي مفكر بآخرين سبقوه أو عاصروه، أمرٌ مفروغ منه. فالكاتب في النهاية لا يمكنه أن يصوغ جملة واحدة من دون أن يستعين بأحرف وكلمات وعبارات سبق لغيره أن أنتجوها، لكن المهم عنده هو كيفية استخدام ما سبق إنتاجه كأداة لإنتاج ما هو جديد. هذا ما ركّز عليه في مقاربة فكر المعري. يشير في السياق عينه الى أهمية الكشف عن مكمن الإبداع لدى المفكر موضوع الدرس قائلاً: "وليس يهمّنا أن نعرف عند من ندرسه أقاليمَ الأفكار وآباءها، بمقدار ما تهمّنا معرفة كيف استحالت هذه الفكرة وتخلّقت في وجودٍ آخر، وكيف استوت وهي مثل خلايا في كائن فكري جديد".
من الملفت فعلاً أن نجد هذا الانهمام بما هو جديد، بما يُدهش، بما هو ثمرة تجسّد القديم بكيانٍ جديد. إن فعل التحوّل الذي تشهده الأفكار عبر التاريخ، وفي التنقّل من بيئة الى أخرى، أمر يستدعي التنبّه والدراسة. كما أن الحركة التي تقوم بها الأفكار في تنقّلاتها لم تعد هي محطّ الاشتغال عند العلايلي، بل ما ينتج عنها، أي ذلك "الكائن الفكري الجديد". يبرهن العلايلي في كتابه كيف أن المعري قد "تجاوز جميع الطرائق والمناهج النظرية وما اليها – من كل ما رتّب وقَدّر الفكر البشري – أي الى اللغة ونواميسها وعلاقات ما بينها، ودخل بها الى المجهول الكوني والغيبي. فأدرك، وأدرك كثيراً، واطمأنّ، واطمأنّ كثيراً أيضاً، واتخذ من أوهام الناس أُلهِيَةً تمدّه بالعبث والنشوة الساخرة، وموضوعاً للنكاية في التعريض".
بعد أن توقفنا عند المقاربة النظرية للمنهج من منظور العلايلي بإمكاننا أن نطرح سؤال التطبيق، بتعبير آخر، هل اكتفى العلايلي بالتنظير لمسالة المنهج أم أنه قام بخوض غمار التطبيق لينتقل من المنحى النظري الى المنحى العملي؟ وبالتالي، هل إن هذا التنظير أتى بجديد عندما وُضع على محك الإختبار والممارسة الفكرية؟
ثانياً: في دراسة المعرفة عند المعري
لم يكتفِ العلايلي كما أسلفنا بالتنظير للمنهج، إنما قام بتطبيق ما توصّل اليه نظرياً على موضوع درسه. ففي مجال التاريخ على سبيل المثال، عزم على إعادة صياغة تاريخ الحسين، كما تاريخ العرب، وفي مجال الفلسفة والأدب فقد أعاد قراءة فكر المعري، وكشف عن أمور ملفتة، نحاول في ما يأتي تسليط الضوء على أبرزها.
يهمّني بداية أن أشير الى أن العلايلي درس مجمل فكر المعري في كتاب مؤلّف من 22 فصلاً، وممتدّ على 212 صفحة، عنيت به: "المعري ذلك المجهول، رحلة في فكره وعالمه النفسي". قام بسبر أغوار العصر الذي نشأ فيه المعري، كما استكشف أصول الفلسفة الجديدة التي ظهرت في كتاباته، وما أفصحت عنه من أفكار، جاءت واضحة أحياناً، ومتخفّية أحياناً أخرى. لن أستعرض هنا مجمل ما تضمّنه كتاب العلايلي حول المعري، لكنني اخترت فقط نقطة واحدة، وهي تنحصر في كيفية مقاربة العلايلي لـ"نظرية المعرفة" عند المعري: كيفية تتبّعها، وأبرز ما اجتذبه فيها، والجديد الذي تلمّسه في كيفية تبلورها في كتابات المعري، وبخاصة في اللزوميات.
قبل الخوض في موضوع المعرفة، لا بدّ أن نشير الى ما أورده العلايلي في فصل عنوانه: "كيف نقرأ المعري؟"، حول علاقة هذا الأخير باللغة، وما يلزمنا أن نتحصّن به لكي نقرأ ما كتبه لنا. يقول: "إن المعرّي، كما يبدو لي، استحيا اللغة وتلبّسها لا لتعتبر وفق دلالتها، بل وفق دلالاته نفسه، ولا لتشير الى ما اجتمع فيها من وحي العصور وروحها الجاثمة، بل الى ما اجتمع فيها من وحيه ولفتات روحه". واضح مما ذُكر أن العلايلي يريد لفت النظر منذ البداية الى أن المعري كان متحرراً في تعاطيه مع اللغة، هذا الأمر الذي أعجب العلايلي، هو المنادي بالتجديد، والثورة على التقليد. كشف عن أن المعري وضع نحواً خاصاً به، وبلاغة تخصّه، وقواعد تخصّه، حتى أنه يتحدّث عن لغة للمعري حمّلها دلالاته هو ومفاهيمه هو. لذا لم يعد بالنسبة اليه الاعتماد الحرفي على المعجمية اللغوية أمراً مفيداً، انما ينعته بالساذج والغبي. من هنا يضع للقارئ شرطين من أجل تأمين قراءة صحيحة للمعري: الأول يقتضي توسّعاً لغوياً كبيراً يسمح باستيعاب النواحي الخفية داخل "تصرّفه التركيبي، ورودانه الانشائي". أما الشرط الثاني فيكمن في ضرورة التدقيق العميق في خصائص المعاني أي بـ"جو الألفاظ"، وفق تسمية العلايلي، وهو شيءٌ خلاف المعنى. "فللفظ معنى، وله خيالٌ يضفو على المعنى كهالة".
إن هذين الشرطين المتوفرين لدى العلايلي قد سمحا له باختراق عالم المعري اللغوي كما الأدبي والفلسفي. وقد يكون عدم توفرهما كما يجب في دارسي المعري السابقين كبير الأثر على ما أنتجوه في هذا الخصوص.
بالعودة الى نظرية المعرفة، نشير في البداية الى أن كيفية درس العلايلي موضوعَ المعرفة من خلال لزوميات المعري، وما توصّل الى استنتاجه من نظرية متماسكة حول العقل وكيفية اشتغاله في عملية البحث عن الحقيقة، أمر ملفت للغاية. نجده قد اختار أن يبدأ بدراسة طبيعة المعرفة لدى المعري ومنهجيتها، إذ أن التعرّف على كيفية تفكير المعري ومعرفته للأمور خطوة منهجية ضرورية، بالنسبة اليه. يقول: "قبل الدخول اليه يلزمنا أن نعلم كيف يفكر ويعرف، وكيف لنا أن نفكر ونعرف معه، وما قيمة المعرفة، وما أصولها". هذه المعية تشير الى رغبةٍ في التعرّف على المفكر كما هو، من دون إسقاط، إنها عملية مرافقة له ولأفكاره، خطوة بعد خطوة.
يرى العلايلي أن نظرية المعرفة كانت وهي أبداً بمثابة أساسٍ أوّلي أدّى الى ولادة المدارس الفلسفية على اختلافها، كما أدّى أيضاً الى نشوء الفرق الدينية والنِحَل على تناقضها. بعد أن استلّ الأبيات التي تكشف عن مفهوم العقل لدى المعري، يشير الى الخصائص الثابتة التي يُزوّد بها العقل وهي تنمو بتفاوت وفق البيئة التي ينمو فيها، فيظهر تارة ضاوياً ملتوياً، وطوراً آخر بالغاً زكياً. ثم يشدّد على ما تبيّن له في سياق بحثه في نظرية المعرفة عند المعري، متوقفاً عند ما يدعوه بـ"فساد عقلٍ صحيح"، ويرى أن هذا التعبير "يُقرّر بأن التعصّب الذي نعيا به ونجهد بحلّه ليس هو في الشيء وليس في العقل نفسه وملكة الإدراك، وإنما ينبع مما يخالط العقل من الأباطيل، وتُسمّى أفكاراً وفلسفات ومسلّمات أحياناً، وهي في حقيقتها فسادٌ فقط لا يزال بالعقل حتى يحتقن متورّماً وينغِل نازّاً بالمِدّة والصديد".
يسلّط العلايلي الضوء على المنحى النقدي عند المعري بخصوص مسألة التعقّل، فيشير الى ما لحظه هذا الأخير لدى الناس الذين يحوّلون ما سبق أن تخيّلوه الى حقائق، ويتعاطون معه على هذا الأساس. كما يلفت الانتباه الى ما قاله المعري بخصوص القيام بتحميل العقل معارفَ تتكدّس فيه وتتحوّل الى "صدإٍ كثيف"، أو الى إجبار العقل مكرهاً على تصديق قضايا يُزعم أنها بمثابة مسلّمات ومبادئ ضرورية للتفكير. من هنا يطالب المعري بضرورة إخضاع هذا العقل من مختلف نواحيه الى عملية صقلٍ محترفة، تنقّيه من هذه الشوائب.
كذلك يشير العلايلي الى تمييز المعري بين العقل الفطري والعقل المكتسب، مطمئناً الى الأول ومنحازاً اليه بقوة، من جهة، ومنتقداً الثاني وحاقداً عليه، من جهة أخرى، وذلك للسببين الآتيين:
- طمسُ العقل المكتسب معالمَ العقل الفطري وتشويه عمله.
- إغراقُ العقل الفطري بتعميمات العقل المكتسب وتضليله.
من هنا كان تركيز المعري على ضرورة القيام بتنقية العقل الفطري عن طريق تخليصه من "طفيليات العقل المكتسب"، وصقله لتنزيهه من الشوائب والأوهام التي أعمته من جرّاء أخطاء العقل المكتسب. لذا كانت العزلة هي الحل لأنها توفر للعقل فرصة ثمينة تسمح للإنسان "بتقليب قضايا العقل على متنوّع وجوهها في تمهُّل، وتحليلها طويلاً في صدق".
فالزهد بالدنيا، واعتزال المجتمع يخوّلان الانسان أن يحقّق ما يأتي:
1- تنقية الفكر من الأخلاط، أي من كل أثر عضوي.
2- تنقية الفكر من صدأ العقل المكتسب وأغلاله المتمثّلة في المبادئ والبديهيات والأوهام المفروضة عليه.
3- التفلّت من أسر القسرية الاجتماعية التي من شأنها أن تحدّ من إرادة الفكر والكائن.
يشير العلايلي الى أمر انتهى اليه المعري بعد أن قام بالتمييز بين العقل الفطري والعقل المكتسب، وقدّم تصوّره حول ضرورة تحرير الأول من أدران الثاني، وهو أن العقل بعد هذه العملية يصبح "نابضاً بخصائصه الثابتة، ذاهباً في اتجاه منطق جديد". ويربط في ما يلي بين ما قاله المعري عن "برهان الرهان" وبين ما يُنسَب عن طريق الخطأ الى الفيلسوف الفرنسي بلاز بسكال، معتبراً أن المعري هو من سبق وابتدعه.
يخلُص العلايلي، كما يبدو، الى استنتاج ثلاثة أمور بعد درس نظرية المعرفة وطبيعة العقل عند المعري:
أولاً: إنها من "أخصب النظريات وأحفلها وأعمقها، وليست تفي بها خلاصة أو خلاصات،(...)، بل هي خليقة بكتاب ضخم مستقل، لنرى دقتها واستيعابها وتفصيلها، ونرى أيضاً دقته فيها واستيعابه وتفصيله". ويركّز على أهم ما يمكن استخلاصه من دراسة المعري وهو "إمكان المعرفة الحق المُطمئنَّة، بعد استدناء وسائلها وصبّها في ذات طالب المعرفة وفي فكره".
ثانياً: إنها تعبّر عن براعة المعري من خلال ما يسمّيه بـ"حبال الصيد" التي يتمتّع بها الفكر، والتي يستخدمها كما يفعل القانص، وهي بإمكانها أن تجعل مما هو متعسِّر متيسّراً. لذا كان على المفكر أن يقوم بـ"ضحل المستنقعات العقلية"، بخاصة عند أولئك الذين ينظمون نظرياتهم بغير روية ولا فطنة، "لا يُحسون بكسر تفاعيلهم وأقيستهم". في حين أن الذي زوّد نفسه "بحبال صيد فكرية سليمة، ليس يفوته القنص، وليس يقعد أبداً دون الظفر".
ثالثاً: إنها تبرهن على أن المعري هو "أول من قال بمذهب العقل العام"، كما أنه أول "من قال بمذهب الضرورة الذي يرى أن ما يجري في الكون من حوادث، إنما يصدر عن علل ضرورية خاضعة لقوانين المادة والحركة". ويعتبر العلايلي أن هذا المذهب الذي اكتشفه عند المعري قد عُرف أيضاً بـ"المذهب الميكاني" أو الميكانيكي، "أو مذهب الجبر الآلي. ويشير ختاماً الى أن دارسي المعري لم يفهموا ما قاله على الحقيقة بهذا الخصوص، إنما ظنوا أنه يقول بالجبر.
خلاصة القول، إن المنهج الذي اعتمده العلايلي في درسه نظرية المعرفة عند المعري جاء باستنتاجات ملفتة، على المختصّين بالمعري أن يدقّقوا بجدّتها، ويسلّطوا الضوء على ما توصّل اليه في هذا الشأن. ما يهمّنا هنا، هو لفت الانتباه الى رصانة العلايلي الفكرية، ومدى توخّيه الدقّة والحذر في خطواته البحثية. كما نشير الى أن اختياره للمعري ملفت وله أكثر من معنى، بحسب ما نعتقد.
قد يكون العلايلي قد اختار المعري لأن القليل من الدارسين انكبّوا على إعطاء الأولوية لنتاجه في أعمالهم، كون الفارابي وإبن سينا وإبن رشد قد استحوذوا على الاهتمام الأكبر. وقد يكون بسبب انحيازه وتعاطفه مع ما يسمّيه محمد أركون بـ"المفكرين الثواني" في التراث العربي الاسلامي، الذين هُمّشوا ليس فقط من قبل السلطة وإنما أيضاً من قبل الباحثين الجديين، والمستشرقين، على حساب الفلاسفة الكبار المعروفين. فمحمد أركون، عندما اختار أن يبحث في فكر كل من التوحيدي ومسكويه، كان على علمٍ بأنه يقوم بخطوة في اتجاه معاكس لما هو سائد في أروقة السوربون. ان اتجاهه صوب اختيار العمل على إبراز "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" ، كموضوع للدكتوراه، كان يعبّر عن رغبة دفينة لديه، لها أسبابها الخاصة، لم تعد مخفية على أحد، وهي معاناة التهميش التي قاساها بسبب انتمائه الى منطقة القبائل الجزائرية. من هنا، هل يمكننا أن نربط بين التهميش الذي عانى منه أركون، وبين تهميشٍ من نوع آخر عانى منه العلايلي في جوّ لم يكن يعطي للفكر أولويته، ولا للنقد حقّه؟ هل هذا الأمر قد لعب دوراً في اختيار العلايلي لنتاج المعري؟
وبعد،
يمكننا في الختام أن نسأل، هل بقي المعري، بعد أن مرّت عليه نظرات العلايلي النقدية مجهولاً؟ هل ما سبق أن قدّمه بخصوص نتاج المعري المعرفي قد كسر الحاجز بين "رهين المحبسين" والمتلقّي المعاصر؟ هل أصبح "ذلك المجهول" معلوماً على حقيقته وكما يليق به؟ أسئلة تضعنا في وقفة تأمّل بما أنتجه العلايلي، وبكيفية مقاربته للمعري. أسئلة تلقى في نظرنا ردّا إيجابياً يبرهن بوضوح على أن كاتب "المعري ذلك المجهول" قد أصاب الهدف، ونزع الستار ليكشف عن وجهٍ عانى في حياته كما في مماته من التهميش والعزلة الجبرية كما الاختيارية. ما كتبه العلايلي حول المعري يستحق التوقف عنده، والاستفادة منه، والذهاب به الى أبعد. بين العلايلي والمعري أكثر من نفس ثوري، وأبعد من مسار نقدي...
في النهاية يمكن أن نلحظ، بعد أن توقفنا عند تجليات المنهج النقدي، في نقطة أولى من خلال مقاربة الدين، وفي نقطة ثانية من خلال تحليل نظرية المعرفة عند المعري، كم أن عبد الله العلايلي إنسانٌ مهموم بالانسان، وبالمعرفة في آن. الحقيقة هاجسه، وهدفه المنشود. المنهج النقدي طريقه الذي شقّه بعرق الكلمات. الثورة على التقليد تعبيرٌ واضحٌ عن توقه العميق نحو المزيد من التحرّر من الجهل ومن عبودية الماضي السحيق. وسّع حدود الأفق بمسعاه النقدي المتجدّد، وأطلق العنان للإنفتاح والتفلّت من القيود. لا يستكين ولا يهدأ ما دام هناك جهلٌ وتعصّبٌ وانزواء...
عبد الله العلايلي علامة مسجّلة في وجدان كل من قرّر التمرّد على سجون الواقع المتكثرة، ويدٌ حانية ترفق بمن تاه في وجع الأسئلة المقلقة...
هو الذي قال في فاتحة "تاريخ الحسين": الناس في الحياة أشباح مبهمة تختلط ثم تتكسر في ظلام الأبدية بغير ضجيج، ولكن الكائن العظيم وحَده هو الذي يُقدّم التاريخ العظيم..." ، فهل سيخترق شبحه المبهمُ هذا ظلامَ الواقع المأزوم بفعل توهّج كلماته؟