في غمرة تنامي إدراك الواقع الإنساني "المتأزم/ البائس"، وشعور"بوجع افتقاد الغاية، والهناء الوجودي" ووعي بما قد يُنتج من أخطار مستقبلية على الإنسان والبشرية بسبب التوجه المادي الأحادي.. تولد، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، شعور بالحاجة إلى حوار بين المسيحية والإسلام، كان من مُنظريه الأُول:"فلاديمير سولوفيوف" في "سباحة عكس التيار السائد"، فمن آفاق التنافس والتصادم (والذي يمثله حديثاً "صموئيل هنتنتجون")، إلى آفاق التحاور والتفاهم.. يُعد "سولوفيوف" من بين هؤلاء المستشرقين، كـ"إنكيتيل دوبيرون"، و"لويس ماسينيون"، و"ألكسي جورافسكي"، و"روبرت أولسن"، و"جي دي براون" وغيرهم الذين امتازوا برؤى تتسم بالإنصاف، والموضوعية.
كان ظهور الإسلام وانتشاره السريع في القرن السابع الميلادي مفاجأة كبرى للكنائس النصرانية المختلفة التي هيمنت على شعوب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وما جاورها، ففي مدةٍ تقل عن مائة عام تمكن المسلمون من التوسع ونشر رايتهم علي جميع السواحل الشرقية، والجنوبية، والغربية، للبحر الأبيض المتوسط، وفي مدةٍ تزيد على المائة قليلاً بلغوا أعماق أوروبا وجنوب فرنسا، فأربعاً من بين خمس عواصم دينية لدى النصارى تحولت إلى حواضر إسلامية، وهن: بيت المقدس، والإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية! ولم يبق بأيديهم سوى الخامسة؛ روما.
والمفاجأة الأكبر التي فاقت إخضاع الأرض وضمها، كانت تتمثل في خضوع القلوب لدعوة الحق، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، ومع" الرسوخ السياسي للدين الإسلامي، وتنامي النزعات والاتجاهات النقدية للمسيحية، تحولت الكتلة الأساسية لمسيحيي الشرق الأدنى إلى الإسلام"، لذا فعلى سبيل المثال نجد "همفري بريدو" (Humphrey Prideaux)، الذي يعد من أوائل المستشرقين، يخرج بفكرة "لإنقاذ المسيحية التي ضعف وهجها السياسي في عهده بالقرن السابع عشر" حيث يقول: "إن الإسلام كان عقاباً من الله على تشرذم المسيحيين وخلافهم، وبخاصة في المقاطعات الشرقية للكنيسة الرومانية، وعليهم الآن أن يتعظوا ويحلوا خلافاتهم، وإلاّ فسوف يرسل الله عليهم عقاباً آخر (محمداً آخر)؛ ليعكر صفو حياتهم وأمنهم"(1).
ولقد تهاوت ظنون المؤسستين الرسمية (الدولة البيزنطية)، والكَـنسية (الكنيسة الأرثوذوكسية) بشأن "فورة" هذا التوسع والانتشار، وأنه بمثابة "سحابة صيف ستنقشع"، ومن ثم اكتست العلاقات التاريخية (السياسية والعقدية) بين المسلمين والنصارى بسمات يصفها المستشرق الروسي "إليكسي جورافسكي"(Alexy Zhuravsky) بقوله: " إن المجابهة العسكرية/السياسية بين هاتين الديانتين ـ أو قل بين هاتين الحضارتين ـ منذ بدء ظهورهما المتجاور، ووصولاً إلى القرن العشرين ـ كانت هي الطابع المسيطر على علاقاتهما الأخرى، بما في ذلك العلاقات الدينية ـ الأيديولوجية" (2).
كما يضيف "جورافسكي" أن الأوربيين لم ينظروا إلى الإسلام كعدو أثناء فترة التعصب والتحكم الديني في أوربا فقط، بل حتى أثناء الفترة اللاحقة وبالتحديد إبان الاحتلال الاستعماري في القرنين التاسع عشر والعشرين، فلقد كان الدين شعاراً أيديولوجياً للاستعمار لا يمكن أن ينكره أحد، ويمكن التدليل على ذلك باستعراض الموقف الكنسي إزاء الاستعمار، ونذكر بهذا الصدد وصف مطران باريس الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1840 بأنه انتصار للمسيحية على الإسلام (3).
بيد أنه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ظهرت أصوات جديدة تطرح آراء وأفكاراً وتفسيرات، فلسفية لاهوتية حول نشوء الإسلام، دعوته، ومرتكزاته العقائدية الأساسية.. كان في طليعتها الفيلسوف الروسي "فلاديمير سولوفيوف" Vladimir Solovyov (1835-1900).
ولد" فلاديمير سولوفيوف" عام 1853، في أسرة مؤرخ مشهور هو "سيرغي سولوفيوف". التحق بكلية الرياضيات والفيزياء في جامعة موسكو، ثم انتقل إلى كلية التاريخ واللغة، فتخرج منها عام 1873، ثم درس بعد ذلك لمدة عام في أكاديمية اللاهوت في موسكو، عمل مدرساً في جامعتي موسكو وبطرسبورغ، وفي المعاهد النسائية العليا، منع من إلقاء المحاضرات، بعد أن احتج على ردود الفعل القاسية من قبل القيصرية على الذين اغتالوا القيصر ألكسندر الثاني، معولاً على مبادئ الأخلاق الدينية في التعامل.
وضع "سولوفيوف" مذهباً فلسفياً مثالياً متميزاً، مارس تأثيراً كبيراً على التطور اللاحق للفلسفة الصوفية الدينية البرجوازية في روسيا وخارجها، وقد وظف المشكلات اللاهوتية لخدمة الفلسفة والعلم والأخلاق والتنظيم المقبل للدولة، الذي تصوره في صيغة حكومة ثيوقراطية.
يعتبر "فلاديمير سولوفيوف" الأب الروحي للرمزية الروسية، وكان يرى أن للعالم روحا خالدة، وكانت آراؤه مناقضة لأطروحات النقاد الواقعيين ومفهومهم عن الجمال الذي يقدسه الرمزيون في خلوده الصوفي الغامض الأمر الذي يصوره "سولوفيوف" بعمق:
الموت والوقت يسيطران على الأرض
فلا تستدعيهما بالأرباب
كل شيء سيدور وسيفنى في الغيهب
وشمس الحب وحدها لا تزول.
فالرمزية الروسية مثلت محاولة لسبر العالم المحسوس نحو الماورائيات وجمال أسرارها، متكئة على اتساع آفاق تأويل الرموز، إنها تنطلق من أن صورة العالم المادي مجرد نافذة نحو اللامحدود وحيث لا تكتمل عناصر الجمال بسريتها، حتى أن الرمزيين يرون الفن الراقي يعبر عن نفسه حين تغدو الصورة مجرد رموز.
التمهيد الفلسفي الديني للحوار الإسلامي المسيحي:
يمكن فهم الحوار الإسلامي- المسيحي كتاريخ للعلاقات المتنوعة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين عبر طوال قرون احتكاكهما معاً، لكن بعيداً عن "الشعور بالعظمة والتفوق الأحادي الغربي، والصور النمطية السلبية عن الشرق المتعصب/ المتخلف/ الاستبدادي".. ارتكزت منطلقات "سولوفيوف" في رؤيته للآخر الإسلامي، ومن ثم أمانات التفاعل والتحاور معه، وتحويل دفة "التنافس والتصادم، إلى آفاق التحاور والتفاهم المتبادل".
اتهم "سولوفيوف" مذهبي المادية والإلحاد "باللاأخلاقيين، وبتجريد البشرية من روحانيتها، وبترك الناس فريسة الحيرة والضياع"، ولام المسيحيين الذين "لا يلتزمون في حياتهم بالقانون المسيحي"(4).
كما انتقد التأويلات المادية للمذاهب الوضعية وللعقلانية الكانطية والهيغلية، وقال إن عيب الفلسفة الهيغلية يكمن في أن صاحبها يسلم بفعالية العقل، ولا يعير الدين الاهتمام الكافي، وقد دعا "سولوفيوف"، رداً على الهيغلية، إلى تركيب كلي للعلم والدين والفلسفة.
وفي كتابه (الأسس الفلسفية للمعرفة المتكاملة) طالب "سولوفيوف" بأن تعالج الفلسفة ما طرحه اللاهوت من مشكلات المعرفة المتكاملة، وفي كتابه (نقد المبادئ المجردة) حاول إثبات أن المهمة الأساسية للفلسفة لتقوم على "إغناء ذاتها بالأفكار اللاهوتية، أي تحولها إلى خادمة للاهوت".
كما ركزت بعض مؤلفات" سولوفيوف" الفلسفية (روسيا والكنيسة العالمية، الجدال العظيم والسياسة المسيحية، قراءات في ديانة الإله الإنسان، تاريخ الثيوقراطية ومستقبلها) على "دوغمائية" رجال اللاهوت الصارخة، وهاجمت العنف واللامساواة الاجتماعية والقومية والحروب الدائمة بين الدول، وكان وقوفه ضد اللامساواة الاجتماعية والاضطهاد القومي، مصطبغاً بالمسوح الدينية المثالية، وقد رفض النضال الطبقي والثورات، وراح يفكر بحل كافة المشكلات الحادة، من خلال المصالحة بين الأغنياء والفقراء على أرضية دينية أخلاقية، ولم يجد خلاص البشرية بتحقيق الاشتراكية والشيوعية، وإنما في بناء عالم ثيوقراطي، وقد ترك مجموعة من الآراء شكلت تأثيراً في المنهجية الفلسفية الصوفية.
وبخطابه الذي يختلف إلى حدٍّ بعيد عن الخطاب الغربي، الذي غالباً ما يداعب العواطف بالخطابات الإنشائية وبالمحاكمات السلبية، الروحية حيناً والغيبية حيناً آخر، عالج "سولوفيوف"، طبيعة هذا الحوار الإسلامي المسيحي برؤى متمايزة.
شغلته كغيره من المفكرين، قضيتان محوريتان: لماذا ظهر الدين الإسلامي(تاريخياً)؟، ومن هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وما موقعه الديني الفعلي؟ ولعل محاولات "سولوفيوف" للإجابة علي هاتين القضيتين، تعكس مدي تطور التصورات المسيحية حول الإسلام.
ففي كتابه (الخصام الكبير، والسياسة المسيحية)(1883) يرى: خصوصية الشرق التقليدية التي تتمثل في تأكيد أبدية الهوة بين الإنسان والخالق، في رفض تألُّه الإنسان، كعقيدة أكَّد عليها الإسلام، فالإسلام لم يظهر كـ "بدعة" مسيحية (كحالة تطورية)، وإنما بصفته دينا آخر لا مسيحي، مع وجود الخلاف في كثير من التشريعات واليقينيات، كالخطيئة، والتكفير، والتبرير، والتجسيد الإلهي، فالإسلام ـ برأيه ـ يجسد الشرق بمضمونه الأكثر حسماً ووضوحاً، وبهذا يقر، أن المسلمين يتمتعون بوضع التفوق؛ لأنهم يعيشون طبقاً لشريعة دينهم (5).
وفي دراسته "محمد: سيرته، وتعاليمه الدينية"(1896)، ناقش "مسالة الإسلام"، فجاءت كنوع من الدفاع المسيحي عن الإسلام، وكون النبي "محمد" -صلى الله عليه وسلم- امتداداً عضوياً توحيدياً "للشجرة الإبراهيمية"، ويرى أنه من غير الصواب طرح تساؤل عن "حقيقة نبوة محمد"، تماماً مثل عدم جواز تحديد رسالته بأهداف ومهام قومية وسياسية: (لقد كان "محمد" يملك بالتأكيد عبقرية دينية خاصة)(6).
ونراه يضيف مؤكداً: (أن الإسلام استطاع بيقينياته العامة، التي يمكن بلوغها، وبفرائضه البسيطة أن يدخل كثيراً من شعوب المعمورة في التاريخ، فلهذه الشعوب فإن دين "محمد" أصبح مماثلاً" لما كان عليه الناموس/ الشريعة بالنسبة لليهود، والفلسفة بالنسبة للهيلينيين، فهذه الشعوب تمر تاريخياً بمرحلة انتقالية "عتبة الارتقاء" من الطبيعة الوثنية-الهمجية إلى الثقافة الصحيحة الشمولية-المتكاملة، من الديانة الرواحية البدائية إلي الربوبية)(7).
ــــــــــــــــــــــــ
مراجع وهوامش:
1- انظر:
M.P.Holt، “The Treatment of Arab History by Prideaux، Ockley and Sale”، In Bernard Lewis and M.P.Holt (ed.)، Historian of the Middle East (London:Oxford University Press، 1962)، 291.
2- ألكسي جورافسكي، "الإسلام والمسيحية"، سلسلة كتب عالم المعرفة، الكويت، العدد215، نوفمبر 1996، ص22.
3- المرجع السابق، ص37.
4- فلاديمير سولوفيوف: الأعمال الكاملة، ط2، في عشرة مجلدات، مجلد 1، ص: 214-215/ بالروسية.
5- الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص: 114.
6- فلاديمير سولوفيوف: الأعمال الكاملة، مرجع سابق: ص: 554-555.
7- المرجع السابق: ص617.